يساهم توبياس لينديمان في رسم ملامح مستقبل الشرق الأوسط، حيث أنه على إطلاع واسع بالمنطقة، كما أنه أثر وشارك في العديد من المشاريع في الشرق الأوسط وصل عددها إلى 88 مشروعًا تجلت فيها رؤى السيد لينديمان المستقبلية، حتى صار السيد لينديمان يستبشر بهذا الرقم.
وضعت دول الخليج خططًا تتضمن استثماراتٍ ضخمة لبناء مدن جديدة مبتكرة وإجراء توسعات حضرية، كما تشمل تلك الخطط تحديث البنية التحتية بأكملها في المنطقة. على ضوء ذلك أجرينا مقابلة مع المهندس المعماري السيد لينديمان الذي نشأ في مدينة باد أوينهاوزن (Bad Oeynhausen)، فقدم لنا لمحة عن مدينة المستقبل العربية.
لقد اكتسبت شهرة عالية بمشروعاتك الموفرة للطاقة ذات الرؤية المستقبلية. متى بدأت التركيز على المشروعات في الشرق الأوسط؟
منذ أيام الدراسة وأنا مفتون بتخطيط وتنفيذ الأفكار العمرانية. أما اليوم أصبحت أزاول نشاطاتي في الشرق الأوسط منذ ثماني سنوات، وعملت أثناء ذلك أيضًا في كلٍ من سنغافورة وهونج كونج وطوكيو. وعندما حضرت إلى الشرق الأوسط نزلت إلى الميدان وشرعت في تقديم نفسي للزبائن بشكل مكثف، بعدها بدأت تتوافد أولى الطلبيات الصغيرة، أما اليوم فأنا أشارك في تخطيط وتنفيذ العديد من المشروعات العملاقة في دول الخليج.
يوجد العديد من المشاريع: فمجال عملنا يمتد من الخدمات الاستشارية والتنمية المستدامة، مرورًا بوضع الخطط العمرانية الشاملة، ووصولاً إلى التخطيط لإنشاء المطارات. كما أن مجال عملنا يشمل بالطبع أيضًا البنايات المخصصة لمختلف الأغراض، والمستشفيات وعيادات الأطباء وناطحات السحاب والفلل، بالإضافة إلى جيل آخر مختلف بشكل رائع من المنازل الجاهزة حتى عام 2020م.
لقد حصلتم في العام 2010م على المركز الأول في المنافسة الدولية حول وضع خطط لمشروع “جبل خندمة” بمكة المكرمة في المملكة العربية السعودية، وكان ذلك بالاشتراك مع مجموعة وايت سكاي جروب – غيفيرس بوديفيل (White Sky Group – Gewers Pudewill). أين يمكن وضع اللمسات الأولى في مثل هذا المشروع العملاق؟
يمثل أي مشروع عملاق تحديًا في كافة مراحل تنفيذه، كما يصعب التكهن سلفًا بالمدة المطلوبة لإنجازه. بدأ الأمر برمته بمكالمة تليفونية قبل عيد الميلاد بوقت قصير، إذ تلقيت الدعوة الرسمية لتنفيذ هذا المشروع الرائع من الوكيل الخاص بصاحب المشروع. إن المملكة كانت ولا زالت حقًا في مرحلة تحول، فقد تضمن المشروع تصميم وتطوير توسعات بمساحة سكنية قدرها 6.5 مليون متر مربع، وتبعد حوالي 700 مترًا عن المسجد الحرام في مكة المكرمة، ومن المخطط أن يقطنها عدد كبير من السكان يوازي تقريبًا عدد السكان في مدينة بوتسدام الألمانية وما حولها.
ولضمان استدامة مثل تلك المشروعات الضخمة في دول الخليج، قمت في ذلك الوقت بإنشاء مجموعة وايت سكاي جروب للمشروعات الهندسية. وفي أعقاب ذلك مباشرة وبالاشتراك مع زميلين لي من برلين قمت بإنشاء شركة لتنفيذ المشروع تحمل اسم مجموعة وايت سكاي جروب – غيفيرس بوديفيل. وما يسعدني حقًا هنا أن كل من شارك في المشروع وكذلك أصحاب المشروع أصبحوا شركاء وأصدقاء مقربين.
تتطلب مثل هذه المشروعات العملاقة أن يقوم عليها فرق مُبتكِرة ومجموعات من المتخصصين في مجاليْ الهندسة والهندسة المعمارية، بحيث تغطي تخصصاتهم كافة المجالات، ويكونون جديرين بالثقة ومؤهلين بشكل عالي، ولذلك فإننا في رحلة بحث دائمة عن مهندسين معمارين ومهندسين في مجالات أخرى ليكونوا بمثابة تكملة مثالية لفريقنا ولرؤيتنا.
ما هي الشروط التي يجب تحقيقها لنيل المركز الأول في منافسة كهذه؟
إن الشروط والتخطيط النهائي يتضمنا القدرة على إنجاز كافة أشكال البناء، بدءًا من الفنادق والمساكن، مرورًا بمراكز التسوق والأبنية الطبية والتقنية، ووصولاً إلى منشآت المرور والبنية التحتية التي تتخللها حدائق ومساحات فضاء ومساحات أخرى مائية، وأماكن عدة مخصصة للصلاة. لقد كان للتقنيات الجديدة في مجالات التنقل وكفاءة الطاقة والاستدامة أثرًا كبيرًا في تصميم المدينة، هذا وتُعتبر المياه النقية في دول الخليج كما في سائر أنحاء العالم عنصرًا ثمينًا للغاية، ولذلك فإن أهم الواجبات بجبل خندمة في هذا السياق هو حماية مياه زمزم. الجدير بالذكر هنا أننا نسعى إلى تحقيق التوازن البيئي بمكة المكرمة بأكبر قدر ممكن، ولذلك فإننا نستخدم التقنيات الكهروضوئية والطاقة الحرارية الأرضية وطاقة الرياح والمياه، كما نسعى بالأخص إلى الاعتماد على الكهرباء بنسبة مئة بالمئة. وأود الإشارة إلى أننا واجهنا منافسة قوية على المشروع من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا.
أكدت لجنة التحكيم على أن تصميمنا للمدينة يتميز بفهم شامل للمميزات والإمكانات الكامنة في أرض المشروع، كما أنه يراعي في الوقت نفسه ما تمثله مكة المكرمة من قيم عمرانية وروحية، كما أوضحت لجنة التحكيم – المكونة من حكام مشاهير – بأن التصميم يستوفي كافة الشروط، وينجح في التعاطي مع التحديات التي تطرحها أرض المشروع، كما أن لجنة التحكيم وأصحاب المشروع قد أشاروا أننا كنا موفقين في تعاملنا الحذر مع مكانة وتراث مكة المكرمة، وذلك فيما يتصل بخصائص الأشكال العمرانية الحضرية وبالمقاييس المتبعة في خططنا.
هل من المزمع أن يكون مشروع مكة المكرمة جزءًا من المدينة ذاتها أم أنه سيكون مدينة مستقلة؟
يعتبر مشروع خندمة ركيزة من الركائز الأساسية في التخطيط العمراني الشامل لمدينة مكة المكرمة. كان من المخطط أن يمثل هذا المشروع الرائد امتدادا عمرانيًا لمكة المكرمة، إلا أن المدينة من الداخل تعمل كمدينة مستقلة بالطبع، إذ كانت المساحة السكنية المطلوبة للمشروع تبلغ في البداية 6.5 مليون متر مربع، وبعد ذلك وصلت في الخطة الشاملة النهائية للمشروع إلى 6 مليون متر مربع. وهذا يعني أنه بعد الانتهاء من المشروع ستضم المدينة ما بين 160 إلى 200 ألفًا من السكان، ولكن الأهم في هذا السياق هو العدد الكبير من الحجاج والمعتمرين الذين سيستفيدون من هذه المدينة أيضًا.
ما هو الجانب الذي تود التركيز عليه في هذا المشروع؟
إننا نبني من أجل الناس، وبغض النظر عن مكان المشروع فإن ما أعتبره أمرًا أساسيًا هو أهمية واستدامة المشروع، مثلما هو الحال أيضًا فيما يخص تطوير المنازل المنتجة للطاقة (Plus-Energy Houses)، وينصب تركيزنا هنا على إنشاء مدينة المستقبل العربية، إذ أن مشروع المدينة الذكية هذا (Smart City) – والذي سيُنفذ على مساحة تبلغ 91 هكتارًا – يتضمن بنية تحتية حديثة تقوم على أساس التخطيط التقليدي للمدن العربية، والتخطيط متعدد الجوانب للطبيعة، والإضاءة المعمارية، وحلول أخرى مبتكرة للتَنقُل تستخدم كافة أنواع الطاقة المتجددة، إلا أن أساس المشروع هو الاستدامة والابتكار. وهو يمثل بذلك الإمكانات الكامنة في مستقبل المملكة العربية السعودية باعتبارها منارة دول الخليج، كما أنه يمثل في الوقت ذاته طموح شعبها الشاب والذي يبلغ متوسط أعمار أفراده 25 عامًا.
إن مراحل تنفيذ المشروع تعكس حالة من الاكتمال في كل مرحلة على حدة، حيث أنه تم تطوير نسيج معماري مستدام بطبيعته، يمنح لسكانه وزواره إطلالات مذهلة على المسجد الحرام وعلى مكة المكرمة ومِنى.
هل يمكنك أن تخبرنا عن أبرز عناصر المشروع بالنسبة إليك بصفة شخصية؟
من المخطط أن يتميز هذا التوسع الحضري للمدينة بواجهات بيضاء مزدوجة بها أشكال مستوحاة من البيئة العربية، كما أن المواد المستخدمة في إنشاء الأبنية المفردة وكذلك أشكالها غير المتناظرة تساعد على تخفيف الأحمال الميكانيكية والمناخية الشديدة. إن أبرز الملامح المعمارية للمشروع بلا شك هي البنايات التي تُقام في آخر الهياكل العمرانية المصممة على شكل سجاد، وكذلك المركز الاجتماعي المبين في الصورة والمصمم على شكل حلزوني مزود بمقاهي وأماكن للعرض وقاعة احتفالات ومنصات مرتفعة للمشاهدة. أضف إلى ذلك أن إمكانية مشاهدة المدينة بأكملها وبتصميمها الضوئي الخلاب في الليل يُعد أحد أبرز عناصر المشروع.
هل هناك أشخاص أو أعمال أو مباني تمثل لك مصدر إلهام في مشاريعك؟
بصفتنا مهندسين معماريين فإننا نستقي الإلهام من محيطنا كله، من الطبيعة الخلابة، من المنازل، الأثاث، المنتجات، السيارات، لا استثني شيئًا. ما يؤثر في نفسي بحق هو هؤلاء الأشخاص الفضوليون الذين يحاولون أن يفهموا الكون، الذين يغيرون عالمنا برؤياهم الواضحة ويحولونه إلى مكان أفضل، أو أنهم على الأقل يحاولون. هناك الكثير من الأشخاص الذين يمكن أن أعددهم في هذا الصدد: لو كوربوزييه (Le Corbusier)، ستيف جوبز (Steve Jobs)، فراي أوتو (Frei Otto)، ولكن كذلك أصحاب المشروع وأفراد عائلتي أيضًا. وكذلك شقيقي الذي كان دائما ما يكرر على مسامعي أنه لا توجد تفاصيل غير مهمة، وهكذا استقر هذا الأمر بقوة في وجداني، وللأسف فإن شقيقي قد توفي في وقت مبكر جدًا.
ما هي التحديات التي واجهتها بسبب المناخ القاسي في شبة الجزيرة العربية؟
إن المناخ القاسي الناشئ عن الحرارة، والضغوط الميكانيكية الناتجة عن العواصف الرملية لا تُمثل فقط تحديات خاصة، بل إنها تُعد في الوقت نفسه فرص لاستخدام تقنيات جديدة. إننا اليوم من الناحية التقنية قادرون على أن نصنع واجهات متعددة الطبقات تؤدي العديد من الوظائف، لذلك يمكنني القول إننا مستعدون أتم الاستعداد. إلا أنه من الصعب أن نقنع أصحاب المشروع بالتكلفة المادية المترتبة على الاستخدام المعقد لتلك التقنيات.
إن قضية حماية المناخ تُثار اليوم في كل مكان. هل يمكنك أن تشرح لنا ما هي الشروط التي يجب توافرها فيما يسمى بالبناء صفر الطاقة “Zero-Energy House”؟
ما نسعى إليه هو إنشاء منزل منتج للطاقة (Plus-Energy House)، بحيث ينتج المنزل أكثر مما يستهلك، ويمكن بعد ذلك تخزين الطاقة الزائدة والاستفادة منها في السيارة الكهربائية الخاصة بصاحب المنزل، فقط بهذه الطريقة يكون للسيارة الكهربائية جدوى، حيث أن السيارة الكهربائية لن تستطيع أن تفرض نفسها إلا إذا اكتملت دائرة الطاقة.
الجدير بالذكر هنا أن التقنية المستخدمة في إنشاء المنازل المنتجة للطاقة (Plus-Energy House) والمصممة لتناسب دول الخليج، هي عند تطبيقها في ألمانيا لن يتمخض عنها سوى أبنية صفر الطاقة (Zero-Energy House) التي تستخدم من الطاقة بقدر ما تنتج منها، لكننا لا نزال نعمل على رفع كفاءتها.
المنزل الذكي “أي-هاوس” (iHouse) هو من أبنية صفر الطاقة، حيث قدمته مجموعة وايت سكاي جروب (White Sky Group) عام 2012م، وتم تغيير اسمه فيما بعد ليصبح إل1 (L1). إلام ترمز (L1) إذًا؟
في البداية تم تقديم المنزل الذكي أي-هاوس الخاص بوايت سكاي (White Sky iHouse) في دبي والرياض باعتباره منزلاً منتجًا للطاقة (Plus-Energy House)، هذا وقد تم تغيير اسمه ليصبح إل1 (L1) والتي ترمز إلى “لينديمان 1” (Lindemann 1) والسبب في ذلك هو أنه من المزمع أن يتم صناعة سلسلة من تلك المنازل في موديلات متعددة وأشكال مختلفة، إلا أن المنازل الجاهزة تحتاج في البداية إلى ترخيص في كل البلدان بما في ذلك دولة الإمارات العربية المتحدة، كما أنه لم يتم الانتهاء بعد من عملية تطوير وبحث بعض المكونات الخاصة بتلك المنازل.
هل تم تصميم تلك المنازل خصيصًا للشرق الأوسط؟ أم أنه من المُمكِن أن نجد بعد بضع سنوات أحد موديلات إل1 (L1) في ألمانيا أيضًا؟
هيأت تصميمي الأصلي ليتوافق مع الأعباء الحرارية والميكانيكية التي يفرضها مناخ دول الخليج، كما أن العواصف الرملية تمثل عبئًا كبيرًا يتوجب معه استيفاء متطلبات معينة؛ لهذا فقد تم تصميم المواد لتتلاءم مع التقلبات الجوية الحرارية المعتادة خلال فترة الصيف في كلٍ من الرياض ودبي. إنني بالطبع أود أن أبدأ الإنتاج في ألمانيا أيضًا، لاسيما أن الطلب متوافر هناك، إلا أننا نولي الاهتمام الأكبر في الوقت الحالي للبحث والتطوير، وإلى جانب نشاطاتي في هذا المجال بدول الخليج، فهناك أيضًا خطط لتنفيذ مشروعات أخرى في كلٍ من ألمانيا وبريطانيا وأستراليا.
تعبر ديسكفرمي (DiscoverME) عن جزيل شكرها على تلك المقابلة المشوقة، وتتمنى لكم التوفيق في المشاريع القادمة.